الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (189): {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}{وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} تقرير لما قبله حيث أفاد أن لله وحده السلطان القاهر في جميع العالم يتصرف فيه كيفما يشاء ويختار إيجادًا وإعدامًا إحياءًا وإماتة تعذيبًا وإثابة، ومن هو كذلك فهو مالك أمرهم لا راد له عما أراد بهم {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} تقرير إثر تقرير والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة مع الإشعار ناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألوهية والرمز إلى استقلال كل من الجملتين بالتقرير، وقيل: مجموع الجملتين مسوق لرد قول اليهود السابق {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181] وضعف بالبعد ولو قيل وفيه ردّ لهان الأمر.هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {وَلاَ يَحْزُنكَ} لتوقع الضرر، أو لشدة الغيرة {الذين يسارعون فِي الكفر} لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئًا} فإن ساحة الكبرياء مقدسة عن هجوم ظلال الضلال، أو المراد لن يضروك أيها المظهر الأعظم إلا أنه تعالى أقام نفسه تعالى مقام نفسه صلى الله عليه وسلم، وفي الآية إشارة إلى الفرق والجمع {يُرِيدُ الله} إظهارًا لصفة قهره {ألا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الاخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 176] لعظم حجابهم ونظرهم إلى الأغيار {إِنَّ الذين اشتروا الكفر} وأخذوه بالإيمان بدله لقبح استعدادهم وسوء اختيارهم الغير المجعول {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئًا} ولكن يضرون أنفسهم لحرمانها تجلي الجمال {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 177] لكونهم غدوا بذلك مظهر الجلال {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ} ونزيد في مددهم {خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ} ينتفعون به في القرب إلينا {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًَا} بسبب ذلك لازديادهم حجابًا على حجاب وبعدًا على بعد {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] لفرط بعدهم عن منبع العز {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان {حتى يَمِيزَ الخبيث} من صفات النفس وحظوظ الشيطان ودواعي الهوى {مِنَ الطيب} وهو صفات القلب كالإخلاص، واليقين، والمكاشفة، ومشاهدة الروح، ومناغاة السر ومسامراته، وذلك بوقوع الفتن والمصائب بينكم {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} أي غيب وجودكم من الحقائق الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول للبعد وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه سبحانه: {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء} فيطلعه على ذلك ويهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية التي بينكم وبينه {مَّا كَانَ الله} بالتصديق والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي منهم {وَإِن تُؤْمِنُواْ} بعد ذلك الإيمان الحقيقي الحاصل بالسلوك والمتابعة في الطريقة {وَتَتَّقُواْ} الحجب والموانع {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] من كشف الحقيقة، وقد يقال: إن لله تعالى غيوبًا، غيب الظاهر، وغيب الباطن وغيب الغيب، وسر الغيب، وغيب السر، فغيب الظاهر هو ما أخبر به سبحانه عن أمر الآخرة، وغيب الباطن هو غيب المقدورات المكنونة عن قلوب الأغيار، وغيب الغيب هو سر الصفات في الأفعال، وسر الغيب هو نور الذات في الصفة، وغيب السر هو غيب القدم وسر الحقيقة والإطلاع بالواسطة على ما عدا الأخير واقع للسالكين على حسب مراتبهم، وأما الاطلاع على الأخير فغير واقع لأحد أصلًا فإن الأزلية منزهة عن الإدراك وخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك المعنى رؤيته بنعت الكشف له وابتسام صباح الأزل في وجهه لا بنعت الإحاطة والإدراك {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بما ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} من المال، أو العلم، أو القدرة، أو النفس فلا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين، أو المستعدين، أو الأنبياء، والصديقين في الذب عنهم، أو في الفناء في الله تعالى: {هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} لاحتجابهم به {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} ويلزمون وباله ويبقى ذلك حسرة في قلوبهم عند هلاكهم على ما يشير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} [آل عمران: 180] وقد ذكر بعض العارفين إن من أعظم أنواع البخل كتم الأسرار عن أهلها وعدم إظهار مواهب الله تعالى على المريدين وإبقائهم في مهامه الطريق مع التمكن من إرشادهم ويقال: إن مبنى الطريق على السخاء وإن السخاء بالمال وصف المريدين، والسخاء بالنفس وصف المحبين، وبالروح وصف العارفين. وقال ابن عطاء: السخاء بذل النفس والسر والروح والكل، ومن بخل في طريق الحق اله حجب وبقي معه، ومن نظر إلى الغير حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181] وهم اليهود حيث سمعوا الاستقراض ولم يفهموا سره فوقعوا فيما وقعوا وقالوا ما قالوا، وهذا القول إنما يجر إليه الطغيان وغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى على النفس الأمارة فتطلب حينئذ الارتداء برداء الربوبية، ومن هنا تقول: {أنا ربكم الأعلى} أحيانًا مع حجابها وبعدها عن الحضرة {الذين قَالُواْ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَن لا *نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} قيل: إنه روي أن أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله تعالى فتأتي نار من السماء فتأكله، وتأويله أن يأتوا بنفوسهم يتقربون بها إلى الله تعالى ويدعون بالزهد والعبادة فتأتي نار العشق من سماء الروح فتأكله وتفنيه في الوحدة وبعد ذلك تصح نبوتهم وتظهر فلما سمع بذلك عوام بني إسرائيل اعتقدوا ظاهره الممكن في عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك الآية إلى أن جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فاقترحوا عليه ونقل الله تعالى ذلك لنا ورده عليهم، وأولى من هذا في باب التأويل أن يهود صفات النفس البهيمية والشيطانية قالوا لرسول الخاطر الرحماني والإلهام الرباني لا ننقاد لك {حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ} هو الدنيا وما فيها تجعلها نسيكة لله عز وجل فتأكلها نار المحبة {قُلْ} يا وارد الحق {قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى} أي واردات الحق {بالبينات} بالحجج الباهرة {وبالذى قُلْتُمْ} وهو جعل الدنيا وما فيها قربنًا {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} أي غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم تبقوا أثرًا لتلك الواردات{إِن كُنتُمْ صادقين} [آل عمران: 183] في أنكم تؤمنون لمن يأتيكم بذلك {فَإِن كَذَّبُوكَ} خطاب للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم {فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَاءوا بالبينات} للعوام {والزبر} للمتوسطين {والكتاب المنير} [آل عمران: 184] للخواص، ويحتمل أن يكون الأول: إشارة إلى توحيد الأفعال والثاني: إلى توحيد الصفات، والثالث: إلى توحيد الذات المشار إليه بقوله تعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35] ولهذا أتى بالكتاب مفردًا ووصفه بالمنير، وجوز أن يكون الخطاب للوارد الرحماني والرسل إشارة إلى الواردات المختلفة المتنوعة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} حكم شامل لجميع الأنفس مجردة كانت أو بسيطة بحمل الموت على ما يشمل الموت الطبيعي والفناء في الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} على اختلافها يوم القيامة {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} أي نار الحجاب أو ما يعمها والنار المعروفة {وَأُدْخِلَ الجنة} المتنوعة إلى ما قدمناه غير مرة، أو الجنة بالمعنى الأعم {فَقَدْ فَازَ وَما الحياة الدنيا} ولذاتها الفانية {إِلاَّ متاع الغرور} [آل عمران: 185] لأنها الحجاب الأعظم لمن نظر إليها من حيث هي {لَتُبْلَوُنَّ} لتختبرن في أموالكم بإيجاب إنفاقها مع ميلكم إليها وأنفسكم بتعريضها لما يكاد يجر إلى إتلافها مع حبكم لها. وقال بعض العارفين: إن الله تعالى أظهر النفس وزينها بكسوة الربوبية وملأها باللطف والقهر وكساها زينة الملك من الأموال ابتلاءًا وامتحانًا فمن نظر إلى نفسه بعين زينة الربوبية فنيت نفسه فيها ونطق لسان الربوبية منه وصار كشجرة موسى عليه السلام حيث نطق الحق منها وذلك مثل الحلاج القائل: أنا الحق، ومن نظر إلى زينة الأموال التي هي زنية الملك صار حاله كحال سليمان عليه السلام حيث كان ينظر إلى عظم جلال المولى من خلال تلك الزينة، ومن نظر إلى نفسه من حيث أنها نفسه واغتر بالسراب ولم يحقق بالذوق ما عنده صار حاله كحال فرعون إذ نادى {أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى} [النازعات: 24]، ومن نظر إلى خضرة الدنيا وحسا كأس شهواتها وسكر بها صار كبلعام {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}[الأعراف: 176] وهذا وجه الابتلاء بالأموال والأنفس، وأي ابتلاء أعظم من رؤية الملك ورؤية الربوبية في الكون الذي هو محل الالتباس {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} وهم أهل مقام الجمع {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} وهم أهل الكثرة {أَذًى كَثِيرًا} لنطقهم بما يخالف مشربكم والخطاب للمتوسطين من السالكين فإنهم ينكرون على أهل مقام الجمع وعلى أهل الكثرة جميعًا ما داموا غير واصلين إلى توحيد الذات وغير كارعين من بحار الفرق بعد الجمع {وَأَن تَصْبِرُواْ} على مجاهدة أنفسكم {وَتَتَّقُواْ} النظر إلى الأغيار {فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الامور} [آل عمران: 186] أي من الأمور المطلوبة التي تجرّ إلى المقصود والفوز بالمطلوب {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} الظاهر هنا عدم صحة إرادة المعنى الذي أريد {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 186] آنفًا ومن حمله عليه تكلف جدًا فلعله باق على ظاهره أو أنه إشارة إلى العلماء مطلقًا وضمير {فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] إلخ راجع إليهم باعتبار البعض فتدبر و{لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بما أَتَوْاْ} أي يعجبون بما فعلوا من طاعة ويحجبون برؤيته {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ} أي يحمدهم الناس فهم محجوبون بغرض الحمد والثناء من الناس، أو أن يكونوا محمودين عند الله {ا لَمْ يَفْعَلُواْ} بل فعله الله تعالى على أيديهم إذ لا فعل حقيقة إلا لله تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ فَازَةٍ مّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188] وهو عذاب الحرمان والحجاب {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} ليس لأحد فيهما شيء وهو المتصرف فيهما وفيما اشتملتا عليه فكيف يعجب من ظهر على يده فعل بما ظهر {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} [آل عمران: 189] لا يقدر سواه على فعل ما حتى يحجب برؤيته..تفسير الآية رقم (190): {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)}{إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض} تأكيد لما قبله وإقامة دليل عليه ولذا لم يعطف، وأتى بكلمة {ءانٍ} اعتناءًا بتحقق مضمون الجملة أي إن في إيجادهما وإنشائهما على ما هما عليه من العجائب والبدائع {واختلاف الليل والنهار} أي تعاقبهما ومجيء كل منهما خلف الآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لسباحتها في بحر قدرته سبحانه حسب إرادته، وخبر الخرزتين خارج عن سلك القبول وبفرض نظمه فيه مؤل، وثقب التأويل واسع وكون ذلك تابعًا لحركة السموات وسكون الأرض كما قاله مولانا شيخ الإسلام مخالف لما ذهب إليه جمهور أهل السنة من المحدثين وغيرهم من سكون السموات وتحرك النجوم أنفسها بتقدير الله تعالى العليم، وما ذهب إليه هو مذهب الحكماء المشهور بين الناس، وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره ما يخالفه أيضًا حيث قال: إن الله سبحانه جعل هذه السموات ساكنة وخلق فيها نجومًا تسبح بها وجعل لها في سباحتها حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها تسير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث بسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماوية، وجعل أصحاب علم الهيئة للأفلاك ترتيبًا ممكنًا في حكم العقل وجعلوا الكواكب في الأفلاك كالشامات على سطح الجسم وكل ما قالوه يعطيه ميزان حركاتها وإن الله تعالى لو فعل ذلك كما ذكروه لكان السير السير بعينه، ولذلك يصيبون في علم الكسوفات ونحوه، وقالوا: إن السموات كالأكر وإن الأرض في جوفها وذلك كله ترتيب وضعي يجوز في الإمكان غيره وهم مصيبون في الأوزان مخطئون في أن الأمر كما رتبوه فليس الأمر إلا على ما ذكرناه شهودًا انتهى.ويؤيد دعوى أنه يجوز في الإمكان غيره ما ذهب إليه أصحاب الزيج الجديد من أن الشمس ساكنة لا تتحرك أصلًا وأنها مركز العالم وأن الأرض وكذا سائر السيارات والثوابت تتحرك عليها وأقاموا على ذلك الأدلة والبراهين بزعمهم وبنوا عليه الكسوف والخسوف ونحوهما ولم يتخلف شيء من ذلك فهذا يشعر بأنه لا قطع فيما ذهب إليه أصحاب الهيئة، ويحتمل أن يراد باختلاف الليل والنهار تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربًا وبعدًا بحسب الأزمنة، أو في اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة إما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من قطب الشمال أيامها الصيفية أطول وليالها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها، وإما في أنفسهما فإن كرية الأرض تقتضي أن يكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلًا، وفي مقابله نهارًا، وفي بعضها صباحًا، وفي بعضها ظهرًا أو عصرًا أو غير ذلك، وهذا مما لا شبهة فيه عند كثير من الناس، وذكره شيخ الإسلام أيضًا وليس بالبعيد بل اختلاف الأوقات في الأماكن مشاهد محسوس لا يختلف فيه اثنان إلا أن في كرية الأرض اختلافًا، فقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره أن الله تعالى بعد أن خلق الفلك المكوكب في جوف الفلك الأطلس خلق الأرض سبع طبقات وجعل كل أرض أصغر من الأخرى ليكون على كل أرض قبة سماء فلما تم خلقها وقدر فيها أقواتها واكتسى الهواء صورة البخار الذي هو الدخان فتق ذلك الدخان سبع سموات طباقًا وأجسامًا شفافة وجعلها على الأرضين كالقباب على كل أرض سماء أطرافها عليها نصف كرة وكرة الأرض لها كالبساط فهي مدحية دحاها من أجل السماء أن تكون عليها وجعل في كل سماء من هذه واحدة من الجواري على الترتيب المعروف انتهى، والقلب يميل إلى الكرية والله لا يستحيى من الحق؛ وما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس سره أمر شهودي وفيه الموافق والمخالف لما ذهب إليه معظم المحدثين وأكثر علماء الدين.والذي قطع به بعض المحققين أنه لم يجئ في الأحاديث الصحيحة المرفوعة ما يفصل أمر السموات والأرض أتم تفصيل إذ ليست المسألة من المهمات في نظر الشارع صلى الله عليه وسلم والمهم في نظره منها واضح لا مرية فيه، وسبحان من لا يتعاصى قدرته شيء، والليل واحد عنى جمع وواحدة ليلة مثل تمرة وتمر وقد جمع على ليال فزادوا فيها الياء على غير قياس، ونظيره أهل وأهال، ويقال: كان الأصل فيها ليلاة فحذفت لأن تصغيرها لييلية كذا في الصحاح، وصحح غير واحد أنه مفرد ولا يحفظ له جمع، وأن القول بأنه جمع والليالي جمع جمع غير مرضي فافهم، وقد تقدم الكلام مستوفى في الليل والنهار، ووجه تقديم الأول على الثاني.{لايات} أي دلالات على وحدة الله تعالى وكمال علمه وقدرته، وهو اسم {ءانٍ} وقد دخله اللام لتأخره عن خبرها والتنوين فيه للتفخيم كمًا وكيفًا أي آيات كثيرة عظيمة، وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة، قيل: وفي ذلك رمز إلى أن الآيات الظاهرة وإن كانت كثيرة في نفسها إلا أنها قليلة في جنب ما خفي منها في خزائن العلم ومكامن الغيب ولم يظهر بعد {لاِوْلِى الالباب} أي لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الحسّ والوهم، ومنه خبر: «إن الله تعالى منع مني بني مدلج لصلتهم الرحم وطعنهم في ألباب الإبل» أي خالص إبلهم وكرائمها، ويقال: لب يلب كعض يعض إذا صار لبيبًا وهي لغة أهل الحجاز، وأهل نجد يقولون: لبّ يلبّ كفرّ يفرّ، ويقال: لببَ الرجل بالكسر يلب بالفتح إذا صار ذا لب، وحكى لبب بالضم وهو نادر لا نظير له في المضاعف.ووجه دلالة المذكورات على وحدته تعالى أنها تدل على وجود الصانع لتغيرها المستلزم لحدوثها واستنادها إلى مؤثر قديم ومتى دلت على ذلك لزم منه الوحدة، ووجه دلالتها على ما بعد أنها في غاية الاتقان ونهاية الإحكام لمن تأمل فيها وتفكر في ظاهرها وخافيها وذلك يستدعي كمال العلم والقدرة كما لا يخفى، وللمتكلمين في الاستدلال على وجود الصانع ثل هذه المذكورات طريقان: أحدهما: طريق التغير، والثاني: طريق الإمكان، والأكثرون على ترجيح الثاني، والبحث مفصل في موضعه. وإنما اقتصر سبحانه هنا على هذه الثلاثة بعد ما زاده في البقرة لأن الآيات على كثرتها منحصرة في السماوية والأرضية والمركبة منهما، فأشار إلى الأولين بخلق السموات والأرض، وإلى الثالثة باختلاف الليل والنهار لأنهما من دوران الشمس على الأرض، أو لأنهما بواسطة مفيض بحسب الظاهر وهو الجرم العلوي وقابل للإفاضة وهو الجرم السفلي القابل للظلمة والضياء قاله بعضهم، وقال ناصر الدين: لعل ذلك لأن مناط الاستدلال هو التغير، وهذه الثلاثة متعرضة لجملة أنواعه فإنه إنما يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار، أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها، أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها، واعترض بأنه مبني على مذهب الحكماء في إثبات الهيولى والصورة والأوضاع الفلكية فلا يناسب تخريج كتاب الله تعالى عليه، ولعل الأولى من هذا وذاك ما قاله شيخ الإسلام في عدم التعرض لما ذكر في تلك السورة من أن المقصود هاهنا بيان استبداده تعالى بما ذكر من الملك والقدرة، والثلاثة المذكورة معظم الشواهد الدالة على ذلك فاكتفى بها؛ وأما هناك فقد قصد في ضمن بيان اختصاصه تعالى بالألوهية بيان اتصافه تعالى بالرحمة الواسعة فنظمت دلائل الفضل والرحمة في سلك دلائل التوحيد فإن ما فصل هناك من آيات رحمته تعالى كما أنه من آيات ألوهيته ووحدته.ومما يؤيد كون المذكورات معظم الشواهد الدالة على التوحيد ما أخرجه الطبراني وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: أتت قريش اليهود فقالوا: ما جاءكم به موسى من الآيات؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا: كان يبرئ الأكمة والأبرص ويحيى الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبًا فدعا ربه فنزلت: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض واختلاف اليل والنهار لايات لاِوْلِى الالباب} وأخرج ابن حبان في صحيحه، وابن عساكر وغيرهما عن عطاء قال: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وأي شأنه لم يكن عجبا؟ إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال: ذريني أتعبد لربي فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا ولِمَ لا أفعل وقد أنزل الله تعالى علي في هذه الليلة {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض} إلى قوله سبحانه: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191] ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وكان صلى الله عليه وسلم على ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه إذا قام من الليل تسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات} الآية. وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال: بتّ عند خالتي ميمونة فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل، أو بعده بقليل ثم استيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم.
|